الخرطوم : هتو اس دي Hato Sd
كانت مساحة السودان منذ استقلاله في العام ألف وستمئة وستة وخمسين وحتى العام ألفين وأحد عشر مليوني ميل مربع، كان أكبر دولة عربية وأفريقية تتمتع بتنوع وثراء هائل في الثروات الطبيعية التي تتوفر في المناطق الجغرافية الجنوبية، لكنه فقد الكثير منها بعد الانفصال والسبب في ذلك هو الحرب.
خطى السودانيون خطوة كبيرة ومهمة نحو السلام الشامل بعد سنين طويلة من الحروب الأهلية الطاحنة التي أدت بالجنوب لتفضيل الانفصال بحثا عن مزايا السلام، الآن وبعد زوال المسبب لتلك الحروب وهو النظام البائد الذي عمل على شرذمة السودانيين على قاعدة فرق تسد، ابتعد السودانيون من شبح التقسيم الذي كان يتهددهم واقتربوا كثيرا بهذه الخطوة من إكمال ترميم بيتهم من الداخل.
احتضنت جوبا ماراثون المفاوضات وهي المدينة التي لها مالها من رمزية مرتبطة بالسلام إذ يرقد تحت ثراها الزعيم السوداني الراحل جون قرنق الذي قاد نضالا طويلا من أجل السلام وفاوض بحسن نية ليحل بعد رحيله السلام بين الشمال والجنوب مؤديا إلى نتيجة لن ينساها العالم إذ وصل سعر الجنيه السوداني لأفضل مستوياته أمام الدولار بواقع جنيهين للدولار، والآمال كبيرة بعد هذا التوقيع ليعيد الجنيه سيرته الأولى ولينعم البلدان مجددا بخيرات السلام.
صحيح أن هناك حركات رئيسية لم توقع على الاتفاق الحالي الذي أطلق عليه السودانيون وصف الشامل قبل أن يشمل كل الحركات تيمنا بالمعنى قبل أن يكتمل ذلك على أرض الواقع، إلا أن انضمام جميع تلك الحركات إلى ركب السلام هو مسألة وقت كان يحتاج إليه قادة تلك الحركات ليروا مايطمئنهم على المستويين المحلي والدولي ولهم في ذلك كل العذر.. وقد ظهر لهم الآن من التطمينات ما يبعد عنهم مخاوفهم السياسية والأمنية، إذ وقعت قيادات دول الجوار والإقليم على الاتفاق كشهود بحضور ممثلين عن دول عظمى كذلك ولهم جميعا كل التقدير.
من أبرز تلك التطمينات الداخلية الترتيبات الأمنية التي ستندمج بموجبها عناصر الحركات المسلحة في المؤسسة العسكرية، إذ أن أحد أسباب حمل تلك الحركات للسلاح هي سياسات النظام السابق عبر المؤسسة العسكرية التي كانت تنتهج نظاما معيبا يعتمد القبلية والجهوية في التجنيد العسكري، وتفريغ الجيش من التنوع الديموغرافي الذي كان يحقق توازنا حقيقيا يمنع وقوع تجاوزات وانتهاكات بواسطة عناصره، وهذه الترتيبات تعني بالضرورة إحداث تغييرات جذرية وهيكلة حقيقية للمؤسسة العسكرية.
العقبة الأهم التي قد تشكل التحدي الأبرز أمام الحكومة هي إقناع قيادات تلك الحركات بأمرين.. ضمان مسألة علمانية الدولة والتي تم تجاوزها بين مكونات قوى الحرية والتغيير، وكذلك بين الجيش وقوى الحرية والتغيير إبان المفاوضات التي سبقت الاتفاق السياسي، إذ تم التوافق على مصطلح "مدنية الدولة" بديلا عن المصطلح الخلافي "علمانية الدولة" وهو أمر قطعت فيه الحكومة شوطا كبيرا حين وقعت اتفاق المبادئ مع حركة حركة الحلو في أديس أبابا ثم اجتمعت به مجددا في جوبا، ما يبشر بتحقيق تقدم حقيقي مع حركته، وتبقى أمام الحكومة إقناع حركة عبد الواحد النور بما يطمئنه في هذه المسألة.
الأمر الآخر هو تجاوز تحدي المحاصصات ليس فقط مع الحركات التي تطالب بالابتعاد عنها كحركة عبد الواحد النور وإنما تجاوز ذلك أمام الشعب أيضا إذ أطلقت جميع القيادات السياسية قبل أن تدور العجلة تعهدات برفض المحاصصات بمافيهم رئيس الوزراء إذ كان مطلب الكفاءة في صميم الشعار المرفوع " كيف يحكم السودان.. وليس من يحكم السودان" والعبارة منسوبة لرئيس الوزراء عبد الله حمدوك الذي كرر العبارة في أكثر من مناسبة وفي أكثر من لقاء تلفزيوني.
يخشى كثيرون أن تكون المحاصصات وخاصة في مايتصل بالمواقع التنفيذية في الحكومة هي العصا التي ستعرقل كل الجهود المبذولة حتى الآن لإتمام ملف السلام، حيث كانت إحدى الأسباب التي أفسدت الحياة العامة إبان حكم النظام السابق، كما أن الشارع لن يقبل بأن يكون السلام على حساب تضحيات جسيمة قدمت في سبيل العبور نحو دولة السلام والعدالة.
والأمر في تقديري يحتاج إلى توضيح ومناقشة مجتمعية موسعة عبر وسائل الإعلام المحلية -المقصرة في واجبها - لشرح الرؤى التي اتبعت في صياغة بروتوكولات السلام، فهناك الكثير من التساؤلات المنطقية حولها من مختلف مكونات الشعب السوداني لا سيما فيما يخص اقتسام السلطة والثروة وكنت أتمنى لو استخدم مصطلح "التشارك" بدلا من "الاقتسام" إذ يهدف مبدأ دمج الولايات الثمانية عشر في ثمانية أقاليم لتشارُك الثروة والسلطة إذ ستحظى الأقاليم بصلاحيات فدرالية كاملة، كما في اعتقادي سيكون في ذلك إجابة على التساؤلات التي تطرح في مواجهة المحاصصة التي أطلت في مايتعلق بالمجلس التشريعي.
لابد أن يعجل رئيس الوزراء بنفسه إلى شرح مفصل للرأي العام قبل أن تفتح الوثيقة الدستورية وقبل التعديل الوزاري المرتقب والبرلمان الذي تأخر حتى يستوعب من انضموا للسلام، الأمر الذي يشكل تحديا جديدا أمام رئيس الوزراء في إقناع الشارع بما اتفق عليه في جوبا خاصة ما يتعلق بآلية ونسب تمثيل القوى في البرلمان وكذلك التفاهمات التي تدور بعيدا عن الأعين بين بعض أحزاب الحاضنة السياسية التي مازالت تساند حمدوك وحكومته، إضافة إلى مسألة تعريف القوى التي كانت مع النظام البائد حتى سقوطه في البرلمان المقبل، وهو أمر يشغل بال الشارع الذي بدأت تتشكل على مرأى منه نسخ محدثة من أحزاب الكيزان التي يعرفها الجميع واللذين شرعوا في تشكيل تحالف واجهته "مناهضة التطبيع" وهو أسرع مدخل يساعدهم في تقديم أنفسهم على حقيقتهم ليبيعوا بضاعتهم في العلن فيشكلوا أمرا واقعا، شرعوا في تنسيق جهودهم مع اختلاف مرجعياتهم وما يجمع بينهم هو الفكر الراديكالي المتطرف حتى وإن كان منهم من يرفع لافتات التجديد!
لا بد أن يعرف الجميع أن هؤلاء شرعوا في تخوين كل من خالفهم من سياسيين ومسؤولين وأفراد، بل إنهم يدعون لتحرير ما يسمونها ب"ولاية السودان" في استنساخ مباشر لنظام الدولة الداعشية ولا يرفعون إلا أعلامهم السوداء التي هي نسخة من أعلام داعش وجبهة النصرة وينامون بقيام الدولة الإسلامية بل إن هؤلاء لهم إصدارات ومواد يتم بثها على مرأى ومسمع العالم.. وقد وجدت لهم مواد توثق مؤتمراتهم و إحداها أقيم في قاعة الصداقة !! أيوة والله.. قاعة الصداقة ماغيرها.. التي منعت عرض أعمال فنية كفيلم ستموت في العشرين وسمحت لمتطرفين يتبعون لحزب يرفع علم داعش ويسمي جمهورية السودان بولاية السودان أن يعقد مؤتمرا جماهيريا !!
لا يمكن اعتبار ماتقدم إلا مؤشرات خطيرة للغاية خاصة وقد تأخر رصد نشاط هؤلاء وتأخر تجريم أفعالهم التي تبلغ ذروتها هذه الأيام فهي تخون وتكفر وتدعو لتخوين وتكفير الآخرين بكل بجاحة ودون خجل ، وأقول لمن يهمه الأمر محذرا إن الخطر يسري كالنار في الهشيم.. ولن ينفع الندم حين يقع الفأس في الرأس.
الشارع تتربص به قوى اليمين من جهة وتستغله قوى اليسار من جهة أخرى كلما أرادت أن تضغط على رئيس الحكومة، إضافة إلى أن التحديات زادت أمامه من جهة الحاضنة السياسية بعد خطوة الاتفاق على توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل، الأمر الذي يتطلب من رئيس الوزراء حصافة في مناوراته السياسية الداخلية التي تقلصت مساحتها مؤخرا بين الشارع والحاضنة السياسية التي بدأت تظهر عليها أعراض الانتماءات الآيديولوجية والتي قد تتحور لتصبح معدية وستسبب آلاما لا يُعرف موعد زوالها، والخشية أن يتطور كل ذلك إلى ابتزاز ومساومات قد تكون عواقبها وخيمة.
اقترح على رئيس الوزراء أن يسمح لنفسه بأن يمنح مواطنيه بعض الوقت المخصص للعمل إذ أن هذا الأمر جزء لا يتجزأ من مهام عمله في أن يجيب على أسئلة مواطنيه كل فترة ويسمع شكواهم مباشرة.. وهذا أمر لا يكلفه سوى بعض الوقت.. ليختبر وضع الشارع ويعرف من يسانده ومن يعارضه، ويتعرف عن قرب إلى غير المنتمين لأحزاب وجهات سياسية وهم الكتلة التي سيكون لها تأثير كبير في المرحلة المقبلة.. وفيما يتعلق بآلية تنفيذ ذلك فلدي الاستعداد التام لإجراء حوار شفاف ومباشر ينقل نبض الشارع وهمومه ويكون ذلك على منصات التواصل الاجتماعي ويوظف آليات التفاعل على تلك المنصات.. إذ أن أداء وسائل الإعلام الحكومية لا تقوم بواجبها ولن تؤدي الهدف المنوط بها القيام به.. وأذكر هنا أن زملاء رئيس الوزراء في أوروبا كالرئيس الألماني شتاينماير ورئيس الوزراء البريطاني جونسون وغيرهما لهم تجارب كالتي أتيت على ذكرها في هذا المقال. ترى كيف ستكون الاستجابة؟
إلى اللقاء.